فرض الله سبحانه وتعالى الصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء بدون واسطة قبل الهجرة بسنة، وقد فرضها عز وجل خمسين صلاة في اليوم والليلة، وفي هذا دليل على محبة الله تعالى لها، ثم خففت بعد مراجعة سيدنا رسول الله، الرحمة المهداة للبشرية، شفقة على الأمة فجعلها الله سبحانه خمساً في العمل وخمسين في الأجر فضلاً منه ومنة وتكرما. إن الصلاة صلة بين العبد وربه، يجد فيها المسلم لذة مناجاة ربه، فتسكن جوارحه وتطيب نفسه وتقر عينه ويطمئن قلبه وينشرح صدره ويتنور عقله بنور الله سبحانه وتعالى، يرتاح فيها من هموم الدنيا وثقلها فيقوم إلى لقاء ربه وتذكر آخرته، يذكر فيها ربه ويكلمه من غير وسائط، ويدعوه، ويتلو كلامه الكريم. يُكبِّر فيها العبد مولاه ويحمده، يركع له ويسجد، يتذلل ويخشع ويذل للخالق البارئ المصور، يبكي خوفا من الله وحبا فيه وطمعا في رضاه ومحبته وقربه ووصاله، يسأل الحنان المنان ويرجو ويتضرع، يرجع فيها العبد وينوب ويتوب إلى الله سبحانه وتعالى ويستغفره، تصغر في عينه الدنيا وما فيها إلا ما كان قربا من الله. يعظم فيها الله ويوقره، يشكره على نعمه ويحمده على عطاياه ويثني على جوده وكرمه. يصلي فيها على الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم وعلى عباد الله الصالحين. فإذا حصل المراد من الصلاة، وهو كل ما ذكرناه سابقا، كانت للعبد نورا يهديه إلى الصواب ويعصمه من المعاصي؛ ينفذ بها أوامر الله عليه وينتهي بها عن نواهيه، يزجر بها نفسه وشهوته وهواه وماله وطبيعته. فيتجلى هذا النور صفاءا في أخلاقه ومعاملاته وطعامه وشرابه ولباسه وحركته وسكونه... وكل حياته، حتى إذا ما غلبه طبعه وأتى من المنكر شيئا، عاد إلى ربه في صلاته التالية فكفر الله عنه سيئاته وغسله من درنه، وهكذا صلاة بعد صلاة حتى يعود أبيض كالثلج. هكذا هي نفس المؤمن وروحه، وإنما يكون هذا نتيجة التزلف إلى الله ومحبته ودوام القرب منه صلاة وذكرا وصفاء. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء" قالوا: لا يبقى من درنه شيء. قال: "فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا". متفق عليه. ومن علامات الإيمان التعلق بالصلاة والفرح بها، والحزن عند فواتها، والحزن عند المعصية والفرح بالطاعة وعدم الاسترسال مع الرخص، فإن ظهرت له الحكمة حمله ذلك على مزيد الانقياد والعمل. هذه المحبة والأنس بالله والتعلق الدائم به عز وجل يُنبت في القلب صلاحا ونورا يدل على الخير ويمنع من الشر، وهذه هي الحكمة التي فرض الله لأجلها الصلاة، إن هي أقيمت كما أنزلها الله، وكما أداها رسول الله صلى الله عليه وسلام. قال عز من قائل: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)(2). ولئن كانت الصلاة مدرسة لتمثل الشرائع فإن أقربها إلى ذلك صلاة الليل عشاء وفجرا، لما توفره من ظروف الاختلاء بالنفس إلى الله عز وجل، ومن ظروف السكينة والوقار والطمأنينة، وأقربها إلى الإخلاص وترك الأرض وما عليها للتعلق بالسماء وما فيها، فيتحقق بها التوحيد ويسمو الإيمان. قال سبحانه وتعالى آمرا: (أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً)(3). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مبشرا: "بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة" (4). بصلاة الليل يقدم المؤمن دليل إيمانه، فقد سمى الهادي الأمين المتثاقل عنها منافقا فقال عليه الصلاة والسلام: "ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء، ولو يعلمون ما فيهما (يعني من ثواب) لأتوهما ولو حبوا (أي زحفا على الأقدام)، ولقد هممت أن آمر المؤذن فيقيم، ثم آمر رجلا يؤم الناس، ثم آخذ شعلا من نار، فأحرق على من لا يخرج إلى الصلاة بعد" رواه الإمام البخاري.(5) وعن أبي بن كعب قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح فلما سلم نظر في وجوه القوم فقال: "أشاهد فلان؟" قالوا: نعم. قال: "أما إنه ليس من صلاة أثقل على المنافقين من هاتين الصلاتين -يعني الصبح والعشاء- ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا، وإن الصف الأول على مثل صف الملائكة ولو تعلمون ما فيه لابتدرتموه، وإن صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع رجل وما كثر كان أحب إلى الله"(6). تحبيب من المعلم في صلاتها في جماعة وهو الذي خبر النفس البشرية وركونها إلى القعود والكسل. بل لقد وضع عليه الصلاة والسلام ركعتي الفجر والدنيا في ميزان واحد فرجحت كفتهما. قال صلى الله عليه والسلام: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها" (7)، وأخبرنا، عليه أزكى الصلاة وأفضل التسليم، عن الله سبحانه وتعالى أنه من صلى الصبح فهو في ذمة الله، قال: "من صلى صلاة الصبح فهو في ذمة الله. فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء. فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه. ثم يكبه على وجهه في نار جهنم" (. وأكثر من ذلك وعد الصادق الأمين من صلاها بالجنة فقال: "من صلى البردين دخل الجنة"(9). والبردان هما صلاة الفجر والعصر. وأخبرنا عليه الصلاة والسلام أن الملائكة تتعاقب فينا بالليل والنهار ويجتمعون في صلاة العصر والفجر، فقال عليه الصلاة والسلام: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم، وهو أعلم بهم، كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون" (10). فأكرم بها مِن شهادة مِمَّن في السماء، ملائكة الرحمان.
وأخيرا نختم بإخبار أمنا عائشة عن النبي عليه الصلاة والسلام حيث قالت: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد منه تعاهدا على ركعتي الفجر. (11) وبقول جميل للأستاذ مصطفى صادق الرافعي: ".. ثم يشعر بالفجر في ذلك الغَبَشِ عند اختلاطِ آخر الظلام بأول الضوء، شعورا نديّا كأن الملائكة قد هبطت تحمل سحابة رقيقة تمسحُ بها على قلبه ليَتَنَضَّرَ من يُبس، ويَرِقَّ من غِلْظة. وكأنما جاؤوه مع الفجر ليتناول النهار من أيديهم مبدوءا بالرحمة مفتتحا بالجمال؛ فإذا كان شاعرَ النفس التقى فيه النورُ السماويُّ بالنورِ الإنسانيِّ فإذا هو يتلألأُ في روحه تحت الفجر."(12) "وكنا نسمع قرآن الفجر وكأنما محيت الدنيا التي في الخارج من المسجد وبَطُلَ باطلُها، فلم يبق على الأرض إلا الإنسانيةُ الطاهرة ومكان العبادة؛ وهذه هي معجزةُ الروح متى كان الإنسان في لذة روحه مرتفعاً عن طبيعته الأرضية." (13)
أفبعد هذا من ركون إلى النوم، وتثاقل عن أداء الواجب، وغياب عن مدرسة الفضائل. نسأل الله تعالى أن يعلي هممنا، ويشحذ عزائمنا، ويرفع مطالبنا إلى المقام الأعلى مقام الإحسان، إنه على كل شيء قدير.